دقت الساعة 6 صباحًا فكنت على باب منزلي كالعادة مستعدًا لمرافقة الأبناء لتوصيلهم إلى المدرسة قبل أن أستكمل طريقي نحو مكتبي الذي أصل إليه في الساعة 6:45 صباحًا تقريبًا.
نبدأ رحلة المدرسة اليومية بدعاء الركوب، ثم أدعية الصباح، نرددها سويًّا بصوت مرتفع، ثم أقوم بالدعاء لكل فرد من أفراد أسرتي بالاسم، أبدؤهم بخير بداية، الوالدة “نجاة”، ثم الوالد عبدالعزيز، أخصهما بدعاء: “اللهم أطل في أعمارهم في صحة وعافية”، ثم أدعو لزوجتي، ثم أولادي، واحدًا تلو الآخر، وأشرك معهم النسيب الحبيب، وأصدقاء الأبناء، بهم يكتمل العقد الثمين الذي يحيط حياتي البسيطة السعيدة بفضل الله، ثم أختم بالدعاء لي ولجميع المسلمين والمسلمات.
لم يكن صباح يوم الأربعاء الموافق ٢٦ من أكتوبر من العام ٢٠٢٢ مختلفًا كثيرًا في أوله، فقد بدأت بتلك الطقوس اليومية،وانتهيت من الأدعية كاملة، تلاها فقرة أسئلة لآخر العنقود “بسمة”، لأدخل مكتبي مبكرًا بدقائق قليلة في ٦:٤٠ دقيقة صباحًا، لأبدأ في ترتيب مكتبي.
أخرجت جهاز الآيباد الخاص بي من حقيبتي، أرسلت رسالة صوتية أطمئن بها على أحد القياديين ضمن فريق عملي يمر بظروف صحية في تمام الساعة ٦:٤٣ صباحًا، لم أكن أعلم أنه خلال 6 دقائق قادمة، سيتغير صباحي كليًّا، بل سيتغير يومي، وتتغير أيام حياتي الباقية!
رنَّ جرس هاتفي في تمام الساعة ٦:٤٩، نظرت في الهاتف فكان الاتصال من ممرضة الوالدة: “أم فهد”، تزور “أم فهد” الوالدة كل ليلة في العاشرة (١٠) مساءً لتجهيزها لماكينة غسيل الكلى، وترجع لمنزلها ثم تعود في ٦:٤٥ صباحًا، لكي تفصل الجهاز عن الوالدة.
بالرغم من تعودي على اتصالات “أم فهد” المتكررة، التي تبلغني فيها أحيانًا بأن بعض المحاليل أو الأدوية ناقصة، لأقوم بطلبها من المستشفى، أو أن الجهاز يحتاج لإعادة برمجة، أو أن هناك خللاً ما يريدون تدخلي لإصلاحه؛ كوني مدربًا على ذلك الجهاز في المستشفى، إلا أن “أم فهد” لم تكن تتصل بي في هذا التوقيت الصباحي المبكر!
بالرغم من ذلك أجبت مباشرة على “أم فهد” بصوت صباحي ملؤه الحماس والحيوية:
– السلام عليكم، يا هلا “أم فهد”.
لم ترد “أم فهد” تحيتي.
– ألو.. هلا “أم فهد”!: أسمع أصواتًا مبهمة، لا أتبين منها كلامًا، وأخيرًا أدركت أن “أم فهد” تبكي! فارتفع صوتي ومعه دقَّات قلبي، – “أم فهد”، خير! شنو صاير؟!
الآن أتبين صوت البكاء بصوت مرتفع واضح مع جملة طيبة، لكنها ثقيلة في الوقت نفسه:- عظَّم الله أجرك!
– أمي، شفيها؟! ألو “أم فهد”، أمي شفيها؟!
فأجابتني “أم فهد” بالحقيقة التي لم ما زلت أحاول التأقلم معها حتى هذه اللحظة:- دخلت على الوالدة وجدتها متوفية!
ماذا أفعل؟! توترت أعصابي، واضطرب سلوكي، سألت نفسي:- ماذا أفعل؟!
ثوان قليلة مرَّت كأنها يوم طويل كامل، سألت نفسي مرة أخرى:- أمي؟ لعلها في غفوة!
أخذت جهاز الآيباد، وأرجعته إلى الحقيبة، ورأسي مثقلة بمواعيد عملي المرتبة، ومهامي المخطط لها، والأوراق التي تنتظر التوقيع بين يدي!
قفزت خارجًا من مكتبي في لمح البصر، ركضت بين الممرات، وقد فقدت الإحساس بالزمن، لم أشعر بأنني أحتاج لركوب المصعد، نزلت فوق الدرج من الطابق الثالث نحو الأرض، توقفت للحظة فوق الدرج، أفكر لكي أكتب اسم والدي (د. عبد العزيزالمطوع) في الهاتف، لكي أكلمه.
تعطَّل مخي تمامًا عن التفكير، اكتشفت فجأة أن الوالد يكون بالبيت، فلماذا كلمتني “أم فهد”؟ هل يمكن أن يكون الوالد خارج البيت؟ لأول مرة لا أستطيع أن أكتب اسم والدي على الهاتف لكي أتصل عليه! أصابعي ترتجف فوق أزرار لوحة مفاتيح الهاتف، تتوجه نحو الأحرف الخاطئة بسبب رجفة يدي!
تابعت نزولي فوق الدرج، وبصعوبة نجحت في كتابة اسم والدي حينما وصلت إلى الطابق الأرضي، رن هاتفه، رد والدي عليَّ:
– ماذا أقول له؟! كيف أوجه له سؤالي؟! ربما “أم فهد” ما تدري، ربما أمي ما زالت على قيد الحياة، كثرت الاحتمالات، وثقل اللسان، لكن أخيرًا انطلق:
– يبه، السلام عليكم، أنت بالبيت؟
– أي نعم.
– يبه، أمي مريضة حيل حيل! روح شوفها، وأنا جاي بالطريق الآن.
لا أدري لماذا أخبرته بذلك؟! هل بسبب عجزي عن الاقتناع بتلك الحقيقة المرة؟! هل بسبب خوفي عليه من الخبر المؤلم؟!
أغلقت الهاتف، وركبت سيارتي، ولأول مرة أفكر في الطريق الصحيح لأصل إلي بيت الوالدة! فكل مرة أخرج من مواقف السيارات، وأتجه نحو اليسار للوصول إلى الشارع الرئيسي، هذه المرة اتجه سيارتي نحو اليمين! كأن هناك شيئًا داخليًا يقول لي: لا تذهب إلى بيت الوالدة! فأخذت الطريق المخالف.
ما زال جسدي كله يرتجف، شعور أختبره للمرة الأولى، لكن ما زال الأمل يراودني، لعل والدي يتصل بي فيقول: الوالدة في فراشها، تجاهلت وجود “أم فهد” في المشهد تمامًا، نسيتها، وددت لو أنها لم تبلغني، لعلى أحظى بنظرة أخيرة، بقبلة أخيرة،بضمة أخيرة من صدر أمي الدافئ الحنون.
أثناء قيادتي للسيارة، دخلت إلى قروب العائلة، وكتبت ٤ رسائل متتالية مثل شخص ينطق بكلمات غير مفهومة:
– امي مريضة رحيل (هكذا كتبتها بدلاً من كلمة “حيل”!).
– حيل
– بالبيت
– “أم فهد” كلمتني.
كان هدفي أن أمهد الفاجعة للجميع، وأن أواسي نفسي لعلها مريضة ولم ترحل بعد، وأخيرًا اتصل الوالد بعدما دخل على الوالدة، وقال لي: صحيح، الوالدة مريضة!
لم يرد أن يصدمني، ولم أرد أن أصدمه أو أفاجئه؛ فقلت له:
– “أم فهد” أبلغتني، وأنا بالطريق إليكم.
اتصلت أختي الكبيرة “سعاد”، وقالت لي: إنها كلمت “أم فهد”، وبأن أمي توفيت، فأشعرتها بعلمي، وبأنني قريب من البيت.
ما زلت حتى الحين لا أعلم كيف وصلت إلى بيت الوالدة، لكني وصلت، ودخلت، وارتقيت الدرج للطابق الأول، كان الوالد جالسًا في الصالة، لكنى لا أذكر ماذا قلت له! فقد كان كل تركيزي منصبًّا على دخول غرفة الوالدة!
كان الأمل يملؤني بأن كل ما دار غير حقيقي، أتمنى لو كان حلمًا أو كابوسًا، كان جسدي ما زال يرتجف، أتنفس كمن صعد لتوه جبلاً مصعدًا في السماء، وبالرغم من سرعتي فإن هناك شيئًا يشدني إلى وراء، يمنعني من أن أصل إلى غرفة والدتي!
في طريقي نحو غرفتها، توقعت أن يكون دخولي كما اعتدت دائمًا، بالضحكات والابتسامات والقفشات، بالحركات والرقصات! كانت أمي تفرح عندما أفاجئها بينما أكلمها بالهاتف، تقول لي: تعال زورني! لكني أقول لها: مشغول حيل يا أمي! بينما أناأقف عند باب غرفتها، فأدخل عليها مفاجئًا لها، لتضحك وتنبسط أسارير وجهها، وأحضنها كأنما أحضن الدنيا، وأعانق الجنة!
لكن.. الآن كيف سأدخل عليها، بأي وجه! إنها لن تستقبلني، لن تحضني، ولن تبتسم لي، لن أشعر بفرحتها التي تضيء فوق وجهها عندما تراني، لكنني دخلت! لم أجد بدًّا من أن أدخل!
وجدتها جالسة فوق كرسي الصلاة، متجهة نحو القبلة، رافعة رأسها نحو السماء، وعيناها مفتوحتان قليلاً، وكذلك فمها وكأنها تناجي خالقها! وبجانبها كانت هناك.. “أم فهد” تبكي!
ها هي “أم فهد” مرة أخرى ولحظة الحقيقة المرَّة، لم يكن ذلك حلمًا ولا كابوسًا، بل هي الحقيقة، فأمي قد رحلت، أمي لن تستقبلني، فكانت صرخة الألم على قدر مرارة الحقيقة.
صرخت كمن يوشك على الموت: يمه! وركضت نحوها، ارتميت في حضنها، وأجهشت بالبكاء، بكيت مثل طفل صغير فقد أمه،قبَّلت جبينها الذي يشبه صفحة الحليب، ثم عدت إلى حضنها مرة أخرى، وانهارات قواي تمامًا، لكني تحاملت وحضنتها بشدة، لعل قلبها ينبض، لعل الحياة ترجع إلى جسدها المستسلم! يالله! قدمي أضحت لا تحملني، إنا لله وإنا إليه راجعون،إنا لله وإنا إليه راجعون، قبلتها مرة أخرى، ثم أحضرت شالها، وغطيت به وجهها.
دخل الوالد وقال بهدوء: نتصل على الإسعاف للإبلاغ! كم رقم الإسعاف؟! لقد انمسح تمامًا من ذاكرتي، مع أني قد تواصلت معهم منذ فترة قريبة، رحت أتصل على أرقام خاطئة مرارًا، ثم تذكرت رقم الطواريء في أمريكا، فاتصلت على 911 ويقينيب أن طواريء الكويت مختلفة! لكني اتصلت فحسب، وأنا أعلم أن الرقم خاطيء!
تفاجئت بأن الرقم قد أجابني في الكويت، لا أعلم كيف!
– ألو، نحتاج لسيارة إسعاف، عندنا حالة وفاة.
– لحظة، اسمك؟ رقمك؟ من المتوفي؟
حاولت أن أقول لهم: إن المتوفية هي أمي، لكنني لم أستطع أن أنطقها، للمرة الأولى سأذكر اسمها الحبيب وإلى جانبه جملة”رحمها الله”! فدمعت فعيني، ونطقت باسمها بصوتٍ لا يكاد يُسمع من البكاء وجاءني الرد: عظَّم الله أجركم، الله يصبركم.
جاءت قوات الشرطة، والأدلة الجنائية، والمحقق، ووكيل النيابة، حتى يتأكدوا أن الوفاة طبيعية، في كل مرة يحتاجون إلى شيء لم يسمحوا لأحد بالدخول سوى المبلغ؛ ابنها عبد الرحمن! فيالله! وكأن الله يريدني أن أملأ عيني منها قبل الرحيل!
حملناها على حامل الموتى، لم تكن هناك وسادة تحت رأسها، وكانت أمي لا تستطيع أن تنام بدون وسادة، فكنت أثناء المراجعات الطبية أحضر لها عدة وسائد؛ حتى لا ينزل رأسها فيؤلمها، أما الآن! فظللت أحمل رأسها حتى لا ينزل ويتعبها، كماكنت أفعل وهي حية تمامًا! لم أدرك أنها لم تعد تحتاج لذلك، حتى أبلغني الممرض بأنني يجب أن أضع رأسها على الحامل،لم تطاوعني نفسي! ووددت لو أحمل رأسها حتى القبر، حتى لا يتعبها أو يؤلمها!
ها هي أمي قد رحلت إذًا! رحلت وهي فوق كرسي صلاتها، وأمامها مصحفها، لا أعلم.. هل صلت الفجر؟ أم أنها كانت في انتظار الصلاة؟ كل ما أنا على يقين منه أنها كانت في صلاة، فالمرء في صلاة ما دام في انتظار الصلاة! رحلت أمي وما زال متصلاً بها جهاز غسيل الكلى، شاهدًا على ما أصابها من مرض وألم، أرجو الله أن يعوضها عنه خيرًا.
كانت دعوتها دائمًا أن يقبضها الله في بيتها، وأن لا تتعب أحدًا من عيالها، فاستجاب الله لها، ورحلت كما طلبت في جوف الليل، فيا رب ارحمها، يا رب تقبلها، يا رب أسكنها فسيح جناتك.
لقد كتب الله علينا الموت، وسماه في الوقت نفسه “مصيبة الموت”، وما أقساه وأصعبه! لكن ما أرحم الخالق اللطيف الخبير! إذ يُنزل مع كل مصيبة ما يماثلها من اللطف والصبر، وإلا فقد المرء منا عقله مع فقد أحبائه.
لمحة أخرى من لمحات لطف الله بنا هو بقاء باب بر الوالدين مفتوحًا حتى بعد رحيلهما، فبرهما يستمر لما بعد وفاتهما، فقد قيل: “يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما”، فاللهم كما أعنتني على برها في الدنيا، فأعنِ على أن أستمر في برها في موتها، أفضل مما كنت أبرها في حياتها،
وسلام عليك يا أماه.. سلام عليك حتى ألقاك .. راضية مرضية.